روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله أجود الناس.
وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن، فرسول الله أجودُ بالخير من الريح المرسَلة"[1].
هذا الحديث له دلالاته الكثيرة، وأحب قبل الانتقال إلى هذا الموضوع أن أقف وقفات:
إحداها:
أن ابن عباس قدَّم لهذا الحديث بقوله: كان رسول الله أجود الناس. وهذا على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها؛ مما قد يظنَّ أن جوده خاص في رمضان ونحو ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: كان النبي أشجع الناس وأجود الناس[2].
الثانية:
الجود هو الكرم، وهو في الشرع أعم من الصدقة؛ ولذا عرّفه بعضهم بأنه: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي. لكن من أعظم مظاهره: بذل المال، وإلا فالشهيد يجود بنفسه في سبيل الله تعالى، وفاعل الخير يجود بنفسه في خدمة إخوانه، والعالم يجود بوقته وعلمه في سبيل نشر العلم.. وهكذا.
الثالثة:
تشبيه جود الرسول بالريح المرسلة، بل هو أجود بالخير منها: فيه دلالة على أمرين عظيمين:
1- السرعة كالريح، فهو سريع في بذل جوده ببذل بدون تلكؤ أو توانٍ.
2- وصف الريح بالمرسلة إشارة إلى أنها ريح خير تهبُّ بالرحمة، وإشارة أيضًا إلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع من تهبُّ عليه من البلاد.
والآن ننتقل إلى الحديث عن الموضوع فنقول: إن جود الرسول في هذا الشهر الكريم، واقتداءنا به عليه الصلاة والسلام في ذلك، إنما جاء ضمن دلالات خاصة يختص به هذا الشهر المبارك، أهمها:
- جود الله وعظيم فضله على عِباده في رمضان.
- مدارسة القرآن وأثرها على النفس وغناها.
- مجالسة الصالحين وأثرها في استقامة السلوك وعلو الهمة، ومن ذلك: أن يبذل الإنسان ما له فيما ينفعه.
- فضل الصدقة عمومًا، فكيف إذا كانت في رمضان.
ما هي أهم مظاهر الجود؟
أولاً: جود الله وعظيم فضله على عباده في رمضان:
في الحديث الصحيح عن النبي يقول: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به"[3].
فإذا كان جود الله تعالى عبادة تميز هذا التميز بالنسبة للصائمين، ولا شك أن رمضان أفضل الصيام؛ لأنه فريضة.
وأحب الأعمال إلى الله ما افترضه على عباده، فكيف لا يجود العباد على إخوانهم في هذا الشهر الكريم من هذا المال الذي هو أولاً هبة وعطيّة من الله تعالى، لا كما قال الكافر قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78]؟
ثم إنه ثانيًا لا شك زائل؛ لأنه إما أن يزول عنك، أو تزول عنه بالموت حين يتبعك مالك مع أهلك وعملك، فيرجع اثنان المال والأهل، وتبقى حبيس عملك فقط.
فرسول الله كان أجود ما يكون في رمضان؛ لما يرى من جود الله تبارك وتعالى.
ثانيًا: مدارسة القرآن وأثرها: في هذا الحديث: "وكان يلقاه -أي جبريل- في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن"[4].
هذه المُدارسة تجدد له العهد بمزيد عنى النفس، وهي ليست للحفظ فقط، فقد كان يحفظ القرآن؛ فالمُدارسة لأمور كثيرة منها:
- أن رمضان شهر القرآن.
- أهمية المدارسة بخشوع وتدبر، وأثر ذلك في عظم العلم والفهم لكتاب الله تعالى.
- أثر القرآن على النفس وغناها، ومن ثَمَّ جودها.
ومظاهر أثر القرآن في النفس كثيرة جدًّا -لا يمكن إحصاؤها- والله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57، 58].
وأحب أن أقف وقفات قصيرة متعلقة بالاقتصاد والمال وتقويم الأشياء في القرآن:
الوقفة الأولى:
علَّمنا الله في كتابه الحلال والحرام وأثرهما في الحياة، فقال جل شأنه: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]. وهذا يدلُّ على أمرين:
- أن جمع المال بطريق الربا والحرام مهما كثر فهو عند الله ممحوق البركة، وحين يمحق وتمحق بركته يتحول إلى وبالٍ على صاحبه.
- أن الصدقات يربيها وينميها تعالى لعباده حتى تضاعف أضعافًا كثيرة, فـ"اللقمة يربيها الله تعالى بيده حتى تصير مثل جبل أحد"[5].
وهكذا:
- فالربا في المنهج الاقتصادي الإسلامي يساوي: لا شيء.
- والصدقة في المنهج الاقتصادي الإسلامي تساوي: مضاعفة إلى ما لا نهاية.
الوقفة الثانية:
حين تقوم الموجودات التي يملكها الإنسان في الدنيا، يأتي في المنهج القرآن بيان أن هناك شيئًا واحدًا، إذا ملكه الإنسان يتحول إلى أغنى غنيٍّ في العالم، وليس أحد أغنى منه إلا من ملك مثل ما ملك، وهذا الشيء لا يقدر بثمن.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران: 91].
فهذا الشيء هو: الإيمان الصادق. فمن كان معه الإيمان كمن ملك أكثر من ملء الأرض ذهبًا، كما يدل عليه مفهوم هذه الآيات.
الوقفة الثالثة: مجالسة الصالحين
كان يجالس جبريل عليه السلام، وهو يدل على عظم وأهمية الجليس خاصة بالنسبة للأغنياء.
- فالغني الذي يجالس أهل الدنيا، لا يجد إلا المفاخرة بكثرة الأموال، فيـتأثر بذلك ويزداد طمعًا ويصبح همُّه مجاراة من فوقه من الأغنياء.
- من يجالس أهل الخير، يُذكروه بالله والدار الآخرة ويدلوه إلى الطريق الصحيح والنهج السديد في هذه الأموال، ويُقَربوه إلى ربه وما أعده من النعيم لعباده المحسنين.
الوقفة الرابعة: فضل الصدقة
الآيات في القرآن كثيرةٌ جدًّا بينت فضل الإحسان والصدقات عمومًا، وأما من السنة:
- فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله : "يا عائشة، استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسدّ من الجائع مسدها من الشبعان"[6].
وفي رواية لمسلم: "من استطاع منكم أن يَستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل".
- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يُقضى بين الناس". قال يزيد: فكان أبو مرثد لا يخطئه يوم إلا وتصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة[7].
- وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر"[8].
- هذه "سعدي" زوجة طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنهما- دخل عليها زوجها طلحة، فرأت منه ثقلاً، فقالت له: ما لك؟ لعلك رابك منا شيء فنعتبك (أي نطلب رضاك). قال: لا، ولنعم حليلةُ المرء المسلم أنتِ، ولكن اجتمع عندي مال، ولا أدري كيف أصنع به؟ قالت: وما يَغمُّك منه، ادع قومك فاقسمه بينهم. فقال: يا غلام، عليَّ بقومي. فسألت الخازن كم قسم؟ قال: أربعمائة ألف[9].
الوقفة الخامسة: ما هي أعظم مظاهر الجود
كثيرٌ من الناس حصر جوده في رمضان فيما يُسمى بعشى الوالدين، وجعله في يوم الخميس فقط، وهذا مع أنه أراد الخير، إلا أنه قصر من عدة أمور:
- أنه حرم نفسه وتصدق عن والديه، وفضل الله واسع، فهذا مثل من يضحي عن أمواته ويترك نفسه.
- أنه خصّ ذلك في يوم معين، فتحول إلى عادة مستمرة لسنوات، ويخشى أن يتحول إلى بدعة.
- أنه قصر القضية في صناعة الطعام، قد يؤكل وقد لا يؤكل، خاصة أن بعض الناس يصنع الطعام، ثم يبحث عمن يأكله، ولما كان الخير يعم في هذا الشهر، فقد يضطر إلى رميه والتخلص منه.
لهذا، فأحب أن أذكر نفسي وإخواني بأن مظاهر الجود عديدة:
- فهناك المحتاجون من الفقراء في الداخل، وهناك فقراء كثيرون في الخارج، ولا شك أن الأقربين والقريبين أولى، ولكن في الخارج من هو أشدُّ حاجة.
- وهناك مشاريع الإفطار أيضًا في الداخل والخارج، وهي والحمد لله كثيرة.
- وهناك جمعيات ومدارس إسلامية منتشرة: وهي تشكو بُخل إخوانهم المسلمين، في مقابل نشاط تنصيري مدعوم.
- والمجاهدون في سبيل الله في البوسنة وفي كشمير وغيرهما من بلاد الإسلام بحاجة إلى دعم وتأييد.
- وهناك مراكز تحفيظ القرآن الخيرية، وهي كثيرة جدًّا.
ولعل من ذلك: الاستكثار من الطعام وقت الإفطار بحيث يمتلئ الجوف من ذلك، فلا يستفيد من صيامه في قهر عدو الله الشيطان وكسر الشهوة؛ لأن الصائم تدارك عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما زاد على ذلك في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان، فيؤكل منها فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر.
ومعلوم أن مقصود الصوم كما يقول الغزالي: الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على النفس، فإذا دفعت المعدة ومنعت من أول النهار إلى آخره حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثم أطعمت من اللذات وأشبعت، زادت لذتها وتضاعفت قوتها، وانبعثت من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها.
فروح الصوم وسرّه تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالقليل، وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم.
فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً لم ينتفع بصومه.
ومن ذلك: أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحسّ بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوى، فيصفو عند ذلك قلبه، والناس في هذه الأيام خالفوا في هذين:
- نوم طويل بالنهار، فلا يحسّون بصوم.
- وأكل كثير من ألوان الطعام في الليل، فلا يستشعرون الصيام فتهيج شهواتهم وشياطينهم.
[1] رواه البخاري (6) وفي غير موضع.
[2] رواه البخاري (1033)، ومسلم (2307).
[3] رواه البخاري (6) وفي غير موضع ، والنسائي 4/125.
[4] سبق تخريجه.
[5] رواه البخاري (1410) وفي غير موضع ، ومسلم (1014).
[6] صحيح الترغيب (559)، والحديث رواه أحمد بإسناد حسن.
[7] صحيح الترغيب (866)، والحديث رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم.
[8] صحيح الترغيب (880)، والحديث رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن.
[9] صحيح الترغيب (916).
الكاتب: د. عبد الرحمن بن صالح المحمود
المصدر: موقع الشيخ عبد الرحمن المحمود